مقال: أمي.. قصة صمود وحنان تغمر حياتي بقلم :سلطان بن ناصر القاسمي

اخبار الولاية

في كل خلقٍ لله، تتجلى عظمته وعجائب قدرته، وأمارات إعجازه، وأنه سبحانه تعالى أدهش الألباب ودعاها للتفكر والعظة، تسبيحًا وتهليلًا وتفريدًا، ذلك مما أنشأ الباري عز وجل في كل مخلوق من أجهزة حيرت العقول وأبهرت الأنظار، ومع هذا كله فإن الله تعالى أودع مخلوقًا من مخلوقاته قلبًا مدهشًا، وحسًا مرهفًا، وكفًا حانية، كلما قلبت فيه فكرك ونظرك، لهج داخلك: سبحان الله والحمد لله.. ما أعظم الله وما أحسن ما خلق، ذلك المخلوق العجيب هو الأم.قال تعالى: “وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” (لقمان: 14)، وقال تعالى: “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (الإسراء:23). ولما وصف الله تعالى مدى شفقتها وإشفاقها على أولادها قال: “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” (القصص:10)، وعن مدى سعادة الأم بعودة ولدها الغائب قال تعالى: “فَرَجَعْنَـٰكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ” (طه:40).ومنذ طفولتي، واجهت ألم فقدان والدي، لكن بديل ذلك الألم كانت وجود أم عظيمة تفانت في رعايتي ورعاية أخوتي، تحديات الحياة لم تثنِها، بل كانت مجهزة بإيمان عميق بأن أبناءها سيظلون صامدين، وكانت دائمًا تحكي لنا عن قيم وتقاليد عائلتنا في المجتمع، مما ألهمنا ودفعنا لنكون أفرادًا مؤثرين وصالحين في المجتمع. نحمد الله أننا نجحنا في ذلك، ولكن لا يمكنني أن أنسى الدعم الذي قدمه لنا أشقائي الأكبر سنًا في تحمُّل مصاريف الحياة مع والدتنا، وأعتبر ذلك فعلًا يستحق كل التقدير والاحترام من جانبي.ليست أمي فقط نور عيني؛ بل هي الشريان الذي يسري به الحياة، وهي أملي وبسمة وجهي، لا يمكن لأحد أن يضاهي قيمتها وأهميتها في حياتي.أمي هي الروح التي صاغت الأجيال وصنعتها بعناية؛ حيث كانت شخصيتها الرحيمة والمثابرة، الدليلَ على قوتها وصمودها في وجه تحديات الحياة، وكانت لنا ليس فقط أمًّا؛ بل مربية وموجهة ومشيرة، وكانت دائما تبتعد وتبعدنا عن الحديث في الناس ومن تسببوا في إزعاجها ووالدي رحمهم الله، إلّا أنها تحثنا على احترام الآخرين، وصلة الرحم، وقد كانت دليلًا وهدىً لنا في كل خطوة نخطوها.أتذكر دموعها وسهرها في ليالي عناء الإصابة أو المرض، حيث إن من المواقف العظيمة للغالية أمي أتذكر وأنا في الصف الخامس الابتدائي، حينما كنت أستمتع باللعب مع أصدقائي في إحدى الألعاب الشعبية، لكن فجأة، سقطت على الأرض وتعرّضت لجرح في قدمي بسبب كسر زجاجي حاد، وسرعان ما تدفقت الدماء، ورأيت شجاعة لا تضاهى في والدتي وهي تواجه الموقف بكل هدوء، ورأيت في عينيها القلق، لكنها اتخذت الإجراءات الضرورية الأولى للمعالجة الطبية، ثم تم نقلي إلى المستشفى المرجعي في ولاية صحم، ومن هناك إلى مستشفى خولة في محافظة مسقط، حيث كانت والدتي الركيزة القوية التي تحملت كل تلك الظروف بمشاعر الأمومة الصادقة.بعد العملية الجراحية والعودة إلى المنزل، كنت بحاجة للتوكؤ على عكازي، وكانت والدتي إلى جانبي مشجعة ومحفزة، وبفضل الله ومن ثم دعمها اللامحدود، تمكنت من الوقوف مرة أخرى، ومواجهة التحديات، والاستمتاع بفترة طفولتي، واستكمال دراستي.أمي، هي البطلة الحقيقية، بشجاعتها وحنانها الذي لا يُضاهى، وبفضل الله أولا، ومن ثم فضل أمي، استطعت تحقيق النجاح. أمي، أنتِ العظيمة بحقّ!”إنها شخصية لا تُنسى، نسجت أواصر الحب والعطاء بيننا بشكل لا يُمكن نسيانه، وكانت تضيء دروب حياتنا بنورها وحنانها اللا متناهي. كانت شخصية استثنائية، فقد كانت تواجه الحياة بشجاعة وصبر رغم التحديات القاسية التي واجهتها، فما أظهرته من قوة وإيمان يُعد درسًا في الصمود والثبات، وهنا لا يمكن أن أنسى الوقت الذي فقدت فيه ابنتها الغالية، لكنها استمرت في مواجهة الحياة، وحتى قبل وفاة أختي، رحمها الله، وعندما ولدت طفلها أحمد وهي تتصارع مع المرض، كانت أمي تظهر لنا صورة حية لقوة العزيمة والإرادة الصلبة، ففي تلك اللحظة كانت والدتي رحمها الله تجهزنا للذهاب إلى المدرسة وتودعنا وما هذا الوداع إلّا وداع يتبعه لقاء قريب بعد العودة من المدرسة، وفي نفسها إبعادنا عن حضور مراسم جنازة أختنا رحمها الله، حيث كانت أمي تعي بأنها ستودع بعد قليل فلذت كبدها أختي -رحمها الله- إلى مثواها الأخير، كمّ أنت عظيمة يا أمي الغالية.أمي، كلما يمر اليوم دونها، يعتصرني الألم العميق الناتج عن فقدها، وينمو الشوق والحاجة الملحة لحضنها الدافء، لقد كانت رمزًا للقوة والعطاء. إنها الأم الحنونة التي علمتنا وأرشدتنا، ونجحت في إنقاذ أبنائها من متاهات مجتمع مليء بضغوطات الحياة ومشاكلها، إضافة إلى المتطلبات الأخرى التي يحتاجها الأبناء في حياتهم، وكان بإمكانها أن تدفعنا نحو العمل والجد، حتى ونحن صغار، وحتى بعد انتهاء دراستنا الثانوية، من أجل تأمين احتياجاتنا، لكنها تحملت الكثير من المشاق والتحديات من أجل أن نكبر وننمو على النحو الذي يراه والدي -رحمه الله- ويتمناه لنا، فهي كانت تحلم بأن نحقق النجاح في حياتنا ونكون أسر تفخر بها كما أرادها والدي رحمة الله عليه.إن تربيتها الرائعة وإرشادها الثاقب كان لهما التأثير البالغ على حياتنا بشكل لا يُقدر بثمن، ونسعى جاهدين لنكون نموذجًا يحتذى به، مثلما كانت تتمناه لنا الغالية، فلتكن روحها في سعادة بنجاحاتنا.ما أروع تلك الأيام الساحرة التي قضتها أمي بيننا، حيث كانت تشجعنا وتغرس فينا بذور النجاح، تصوّر لنا مكانة والدنا في المجتمع وتعلمنا كيف نواجه مصاعب الحياة، حيث كانت تحظى باحترام وتقدير الجميع متسلحة بالمكانة التي كان يحظى بها والدي رحمة الله عليهما جميعا.إن اللحظات الجميلة التي تمر علينا تبقى راسخة في النفوس ، حيث إن من أروعها تلك التي كانت عند ولادة ابنتي الأولى، لم أدرك حقًا مدى الفرح الذي كنت سأسببه لها بتسمية ابنتي باسمها، وكانت اللحظة التي أحمل فيها طفلتي إلى أمي وأعلمها أني سميتها باسمها، لتكرمها بهدية قيمة، كم أنت عظيمة يا أمي الغالية، كم أشتاق إلى عناقك الدافئ.وفي الأيام الأخيرة من حياتها أتعبها المرض ، حيث كانت ترقد في غرفة خاصة في مستشفى صحار المرجعي وقبل أن يحين أمر الله بوفاتها ، كانت تحدث أبناءها أن يفسحوا المجال لشخص لا يرى ، ولكن هي من كانت تراه وتشاهده؛ حيث تعجب الجميع وقالوا لأمي أنه لا يوجد أحد، قالت لهم إني أراه وأنتم لا ترونه، وما هي إلا لحظات وتغادر هذه الحياة بعد أن وضعت وصيتها قبل رحيلها، وأعدت ترتيب مصاريف عزائها دون أن يساهم أحد منا بأي شيء، فتبرعت بتكاليف العزاء من مدخراتها المالية، كم كنتِ عظيمة، يا عزيزتي، رحمكِ الله.الأم، مصدر الراحة وانتشاء القلوب، فهي من تجعل الحياة خالية من الهموم والالام، فمن لديه أم في حياته لا يعرف مرارة الفقد والحزن، إنها رمز الحنان والعطاء، ومن يفوز برضاها فقد حقق النجاح والسعادة الحقيقية.إن تقدير الأم ومحبتها يقربان من الجنة، فتحت أقدامها الجنة ورضى الرحمن يأتي بملاذ السعادة والراحة، وإن وجود الأم نعمة لا تقدر بثمن، فهي ريحانة الحياة وحامية الوجود، لذلك فإن الدين أيضًا يحث على بر الوالدين، ويأمرنا بأن نكرمهما ونراعيهما بكل حنان ومحبة، فالأم تحمل الطفل وتربيه وتهتم به بكل عناية وعطاء، فلندعو الله دائمًا أن يرحم كل أم ويكرمها برحمته ، وأن يمن عليها بفضله وكرم جوده.من كانت له أم تنعم بالحياة، فلينعم هو ببرها، ومودتها، ولا يضيع يومًا دون أن يبرها ولو بكلمة، الخسارة الحقيقية ليست خسارة المال، ولا الوظيفة، الخسارة الفادحة فقد الأم، لأنها خيمة لك من برد وحر، وأنس لك من وحشة وفقر، ووطن لك من غربة ووحدة، الأمُّ.. جنة الله في الارض، فأسكنوها واعمروها وانعموا بأفيائها وخيراتها، فإن من ورائنا يوم فقد شديد وعصيب. وكم أني حزين لفراقها، وأسعى أن أعوض ذلك في أن أقص على أولادي أجمل قصة في حياتي هي قصة أمي..رحم الله أمهاتنا جميعًا، ومنح الأحياء منهن صحة وسلامة وعزيمة.