مقال/ معطوب! بقلم/ الإستاذة عهود المعمري

اخبار الولاية
لم يكن مشجع الليفربول أنثوني بلاند على علم أنه على وشك تغيير وجه القضاء الإنجليزي حينما كان ذاهبًا لحضور مباراة فريقه المفضل عام 1989 في شيفيلد الإنجليزية، حين وقعت كارثة الهيلزبورو والتي راح ضحيتها ما يقارب الستة والتسعين شخص إثر تدافع المشجعين خارج الملعب ودهسهم لبعضهم البعض نتيجة لخطأ تنظيمي غير مقصود، وكان من ضمن المتأثرين بحادثة الدهس أنثوني بلاند حيث أصيب بعطب في الدماغ مما أدى إلى دخوله لغيبوبة فاق منها ليدخل مرحلة جديدة تدعى بالحالة الخضرية الدائمة (persistent vegetative state)، وهي حالة يصبح فيها المريض أشبه بالنبات فاقدًا للوعي والإدراك والحركة بينما يقوم جسده بالتنفس وإمتصاص الغذاء وتمرير السوائل بشكل طبيعي ولكن دون أي إشارة إلى أن المريض يشعر بنفسه أو بما حوله، وبعد مرور ما يقارب الأربع سنوات من المعاناة قرر أهل أنثوني التقدم بطلب الحق بالسماح لابنهم بالموت بكرامة (die with dignity) إلى القضاء الإنجليزي، وأصبح بذلك أنثوني أول شخص يحصل على حق الموت قانونيًا (right to die legally) وفق القانون الإنجليزي. وفي واقعة مشابهة لأنثوني، دخلت نانسي كروزن فيها للحالة الخضرية الدائمة إثر حادث سير أدى لتأخر وصول الدم لدماغها لعدة دقائق عام 1983، بعد فقدان الأمل في شفاء نانسي تقدم أهلها بطلب الحق في الموت ووافق القضاء الأمريكي منحها حق الموت بعد سبع سنوات من المعاناة لتكون بذلك أول حالة من هذا النوع في أمريكا. في عام 2016 نشرت قناة BBC News مقطع فيديو عن حالة تيري نيوبري العجيبة حيث أصيب بعطب مفاجئ في الدماغ مما أدخله في غيبوبة خرج منها مشلولاً فاقدًا للحركة والكلام، وعلى عكس أنثوني ونانسي، كان تيري واعيًا تمامًا لما حوله ومدركًا لكل ما يحصل، وصفت حالته بأنه كان حبيس جسده ومنه جاءت تسمية مقطع الفيديو (Locked in my body)، خلال الفيديو يخضع تيري لعلاج مكثف، وبمرور الوقت يبدأ باستعادة قدراته تدريجيا إبتداءً بقدرته على تحريك عينيه، الضغط بيديه، التنفس بدون الحاجة لأجهزة داعمة، الكلام، وأخيرًا الحركة.تيري ليس الحالة الوحيدة، فهناك حالة شهيرة للطفل مارتن بستيورس الذي تم تشخيصه بالحالة الخضرية الدائمة بعمر الثالثة عشر، فقد فيه الأطباء الأمل في عودته للوضع الطبيعي، لكن مارتن كان مصابًا بمتلازمة المنحبس (Locked-in syndrome) والتي لاحظتها ممرضته حيث يكون المريض واعيًا لكل ما حوله لكنه حبيس جسده، والعجيب أن مارتن تمكن من الشفاء وهو بعمر الخامسة والعشرين أي بعد مرور أكثر من اثنى عشر عامًا منذ إصابته، استعاد فيها الحياة شبه الطبيعية وتمكن من التخرج من الجامعة والزواج وتأليف كتاب الولد الشبح (Ghost Boy) الذي يسرد فيه قصته مع المرض.لطالما كان رسم الحد الفاصل بين الموت والحياة موضع جدل واختلاف لا ينتهي على أصعدة مختلفة ما بين العلم والدين بل والفلسفة، خصوصا حينما يقع المرء في المنطقة الرمادية بين الموت والحياة، تمامًا كما في الحالة الخضرية الدائمة حينما يصبح فيها الشخص غير واعٍ أو مدرك لنفسه ولما حوله، أو في متلازمة المنحبس حيث يصبح المرء حبيس جسده، لكن الشاهد أن عطب صغيرٌ في الدماغ قد يقلب حياة المرء رأسًا على عقب، ويبقى السؤال الآن: كم من أنثوني، نانسي، تيري، ومارتن ينامون الآن على أسرة مستشفياتنا؟!