مقال : رَقاش بقلم/ خميس بن محسن البادي

اخبار الولاية
الليلة الثانية من الثلاث الليالي البيض و في أواخر أيام الشهر العاشر من العام الميلادي و قد بدأ وقت اعتدال الطقس يهيمن على فضاءات الكون و كأنه ينبئ عن حالة انتصار قادمة ستطيح بهذا (اللاهوب) الذي و من شدته ينشط فيه ذلك السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، منتصراً بذلك عليه من خلال دورة كونية لا تتوقف إلا بأمر ربها، حيث و في هدْأَتِ الليل و سكونه و خلوية المكان و نقائه افترشت رقاش حبيبات الرمل الذهبية الناعمة متخذة من المكان الذي تواجدت فيه رفقة أفراد أسرتها ركناً لعزلتها التي ابتغتها لنفسها قريباً من مرقدهم، بعد أن قرر ذويها القيام برحلة خلوية بعيداً عن ضجيج المدينة و صخبها، أو ربما هي محاولة منهم لإخراجها من حالة الحزن التي ما تزال تعيشها على ذكرى رجلها الراحل و وهمها الذي هي عليه بأنه لم يمت، و أن فترة غيابه لن تطول و اعتقادها بأنه سيهل عليها في أي لحظة، و قد يكون مرد هذه الحالة التي هي عليها نتيجة الظروف التي أحاطت بلحظة رحيل الزوج التي كانت هي حينها شاهدة استماع عليها وقت وقوعها.كانت مؤشرات الساعة عند الواحدة و خمسة و أربعين دقيقة صباحاً حين اتخذت رقاش موقعها لجلستها، و لم يكن من أصوات أو ضجيج تتناها إلى المسامع في ذلك المكان، و كان سنا المنشق يعم أرجاء الباحة الرحبة الوادعة، لا يعكر صفوه أي تلوثات ضوئية أو غيمية و لا حتى غبارية، بل هو الهدوء الساكن الساكت إلا من نسمات هواء لطيفة بالكاد يشعر بها المرء، فكانت السماء صافية و الجو ناصعاً نقياً، و بطبيعة الحال فهذا هو ما ينشده طلبة الهدوء و السكينة و التأمل و أحباب الرومانسية، وما من شك أن رقاش يبدو أنها تعيش هذا الوصف خلال هذه الأثناء، و وسط هذه الطبيعة الرائعة الجميلة عادت الذاكرة بــ(رقاش) عامين و نصف العام إلى الوراء هي مدة عمر اقترانها بالراحل، عادت ذاكرتها تستذكر خلالها مواقفه و مناقبه ليس معها هي فقط بل مع كل من تعامل و كان يتعامل معه، كان شاباً وسيماً لطيفاً محباً للحياة متمسكاً بدينه و قيمه و أخلاقه و عادات مجتمعه، تذكّرت مدى حبه و احترامه لها و خوفه و غيرته عليها، تذكّرته كيف أحب أهلها و احترمهم كما هم أحبوه و اعتبروه ابناً جديداً لهم، تذكّرت كيف جعلها بخلقه تحب و تحترم أهله و تتقرّب منهم حتى صار لها مقام خاص في نفوسهم فكانت كأنها لم تخرج من بيت أهلها.و هي تعتدل في جلستها فوق الرمال الذهبية الناعمة التي بدا سطحها بارداً نوعاً ما، ثمة دمعتان كانتا في مآقيهما قد أينعتا و هما تترقرقان على استحياء، قطفتهما حركة اعتدالها فنزلتا من محجريهما لتلقيا حتفهما المحتوم في جوف الرمال العطشى، فلم تلقي رقاش بالاً لهما فأخذت تمد يمناها مرتجفة تتناول جهازها المشؤوم و حال لسانها يقول لو لا أنك تحوي في داخلك ذكريات الراحل الغالي، لن أبقيك و لو للحظة برفقتي أنت و عضدك اللعين الآخر حيث كنتما السبب في الموت المحقق للقرين الحبيب.نعم فقبل سنة تماماً استقل بعلها المتوفى سيارته لقضاء شأواً خاصاً بالأسرة خارج البيت، و هو في طريق عودته ارتأى أن يهاتف زوجه رقاش يسألها عما إذا كانوا بحاجة لحاجيات أخرى قبل أوبته، و بينما هو يحادثها و يلاطفها بود و انسجام عبر الهاتف و هو يقود سيارته، كانت هي تحاول معه لإنهاء المكالمة حتى لا ينشغل بغير الطريق، لمعرفتها رغم انضباطه سلوكياً بعدم استخدامه وسائل التحدث بالهاتف عن بعد فهو لم يجيد استخدام هذه الوسائل في التحدث بها، و بينما كان يماطلها في إنهاء المحادثة بأنه يروم محادثتها عبر الاتصال المرئي و سوف يقوم بتغيير وضعية الاتصال حتى يراها و هو يتحدث إليها حينها وقعت الكارثة،.. فاجعة حادث سير .. سمعت هي لحظات وقوع الحادث عبر الهاتف، سمعت صرخته المدوّية و هو يلقي بالهاتف في محاولة منه للإمساك بمقود السيارة بكلتا يديه لتجنب وقوع الحادث، سمعت ارتطام السيارة بالرصيف الخرساني، سمعت انفجار السيارة بعد الاصطدام، تلا ذلك صمت مطبق، فلم تكن تعلم بعد ما حدث تحديداً حتى وصلها النبأ المفجع المؤلم بوفاة القرين و تفحم جثمانه داخل سيارته المحترقة.استمرت في ذكرياتها هذه حتى تنبّهت على صوت أذان صلاة الفجر المؤقت في أحد أجهزة هواتف أهلها، لحظتها فقط ناظرت ساعة معصمها ليتأكد لها حلول وقت الصلاة فعلاً، نهضت متثاقلة و الحزن قد سيطر على فكرها مستعيذة بالله من الوسواس الخناس ومن خنزب شاغل الناس، أدت صلاتها و أيقظت أهلها و أوت إلى مخدعها عل سِنَة يغلبها ليأخذها لنوم و لو لبرهة من الوقت، بعد سهر ليل قضته في تذكار مأساتها التي ما تزال تعيشها، و هي تأمل أن لا ينشغل إنسان و هو يقود سيارة بغير قيادته لها كي يصل لوجهته بسلام…