#مقال (إنها سقطة إبن و انكسار أب) بقلم/ خميس بن محسن بن سالم البادي

اخبار الولاية
في شأن هذا المقال ترددت كثيراً،، أولاً،، التردد لما قبل الكتابة للكتابة نفسها، ثم ما بعدها لغرض النشر، و ذلك للخصوصية التي عادة ما تحيط بالأمور القضائية و منابرها العدلية، و لكن ومن منطلق الحرص على زيادة جرعة التوعية لأبنائنا الطلبة و الفئة العمرية من الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين تحديداً ولبعض أولياء الأمور أيضاً، و بعد مشورة أهل الرأي والاختصاص، و بغرض الرغبة منا جميعاً كمهتمين بإدراك الأبناء مدى معاناة الآباء التي يتكبدونها و تذللهم للآخرين نظير ما يقترفه بعض الأبناء في حقهم من تجاوزات مخالفة للأعراف المجتمعية والأنظمة و القوانين، لكل ذلك آثرت الكتابة فيما يتعلق بالموضوع ثم السعي نحو النشر.حيث و في مساء يوم خميس و أنا جالساً كعادتي بفناء المنزل على كرسيّي البلاستيكي و منضدته البيضاء ذات الأرجل وعوارضها الموصولة بها و التي تحد أطرافي السفلية من الولوج تحت سطحها والمؤذية إضافة لذلك لقدمي اللذين يصطدمان بها ويتأذيا منها بسبب أني قد أسأت الإختيار عند الابتياع، و رغم ذلك كنت جالساً مستمتعاً و أنا أرتشف كأساً من الشاي بالحليب المنكّه بالقرفة و الهيل و القرنفل و الزنجبيل و شيئاً من العسل كتحلية، بينما في الوقت ذاته تلامس أناملي سطح شاشة الرفيق الملازم اللاصق الدائم، بحثاً عن أية مستجدات محلية أو عالمية عبر مختلف منابر التحادث و التخابر الإلكتروني أو كما يعرف بالتواصل الاجتماعي، تويتر و أخواتها و بنات عمها، وسط جو شتوي مريح تلفح الوجنات نسمات باردة بدغدغات لطيفة، إذ بطارقٍ يطرق الباب و إذا بالمساعدة في المنزل آتية إليّ تفيدني بوجود من يطلبني في الخارج، فتوجهت إليه و إذا برجل نحيل البنية متوسط الطول تبدو عليه علامات العوز و الفاقة، وكأنه في عقده السادس من العمر، و لم أذكر إني على معرفة مسبقة به أو قد رأيته من ذي قبل، فسلّمت عليه ورحبت به و هو يؤكد لي بأننا لا نعرف بعضنا، منوّهاً بأن ثمة من أرشده إليّ و أنه جاءني بناءً على ذلك لغرض في نفسه، فرحّبت به مجدداً و دعوته للدخول، و ما إن فرغنا من مراسم الضيافة المتواضعة و تبادل العرف المجتمعي(أخذ العلوم و تبادل الأخبار)، أبلغني بأن إبنه الوحيد الطالب في الصف قبل الأخير من مرحلة التعليم العام، مطلوب للمحاكمة القضائية خلال الأيام القليلة القادمة، في قضية أوقعوه فيها بعض رفاق السوء الذين مثّلوا له دور الأصدقاء المخلصين الأوفياء، إلى أن وقع في شركهم و عَلُقَ في فخهم الذي نصبوه له، ثم لاذوا مختفين دون أن تتضح لهم أية صلات أو معالم فيما وقع إبنه فيه.وواصل حديثه قائلاً بأنه جاءني حتى أصيغ له بعض العبارات ليعمل على حفظها حتى يلقيها أمام القاضي يوم التقاضي، بحجة عدم إجادته بما يمكن أن يعبر به لمثل هذه المواقف، ولتكون كلمته كدفاع منه عن ولده لعدم قدرته مادياً بتكليف مختص بالدفاع عنه، فأوضحت له بأن النظام الأساسي للدولة كفل لغير القادرين مالياً الدفاع عنهم من خلال ندب محامٍ لهم عن طريق المحكمة المعنية و هو ما ينطبق على حالة إبنه، مؤكداً له بأني غير مختص أيضاً لصياغة مثل هذه الخطابات، فرد قائلاً بأنه لا يظن أن أحداً يشعر بمدى مرارة الموقف الذي هو فيه سواه، و أنه ربما يكون القادر بتوفيق من الله تعالى على بث ما يختلج في صدره أمام فضيلة الشيخ القاضي عن إبنه، مضيفاً بأنه طرق بابي لشعوره بتلبيتي طلبه و عدم رده خائباً، و أمام هذا الموقف المؤلم و الرجل الذي بدا لي عاجزاً يائساً منتظراً مصيراً مجهولاً يحدد مستقبل ابنه الوحيد، الذي ينتظره عام دراسي ونصف العام حتى ينتقل لمرحلة الدراسة الجامعية التي يعوّل والده هذا عليها كثيراً لمستقبل إبنه، لم أجد إلا أن ألبي له طلبه داعياً الله عزّ وجلّ أن يوفقني فيما وضعني فيه هذا الرجل الذي بدا عليه أنه يحمل هماًّ لا قبل له به، رغم أنه و من جانبي شخصياً وجدت نفسي في موقفٍ لا أحسد عليه حقيقةً، و ذلك لما يتطلبه الأمر بشأن انتقاء الكلمة الحق السواء بكل ما سيتضمنه الخطاب، و بعد أن طلبت إليه أن يصدقني القول عن بعض التفاصيل المهمة عن حياته الخاصة وإبنه وطريقة تعاطيه معه من حيث تربيته و توجيهه وسلوك الإبن الإجتماعي، لغرض صياغة ما ستجود به القريحة لأجله كأب مكسور الخاطر، طلبت إليه أن يمنحني بعض الوقت و قد حددت موعداً اتفقت بموجبه معه بمعاودتي فيه، و ما إن غادرني الرجل حتى استحضرت أدواتي الكتابية، فسألت الله الإلهام و التوفيق للتمكن من دفق الحبر على القرطاس، بالكلمات التي جاء ينشدها لديّ قارئها و بنية أن يقنع بها مستمعها قدر الإمكان و المستطاع، فشرعت في الكتابة قائلاً:- لكن بدايةً و لأني أدرك أنه لا حديث لأحد في قاعة التقاضي إلا بإذن الرئيس الذي هو قاضي جلسة المحاكمة، و الذي من عادته أيضاً السؤال عن محامي الدفاع، لذلك بدأت بقولي..(فضيلة الشيخ القاضي بادئ ذي بدء أتوجه إليكم بشكري و امتناني و جزيل عرفاني، بموافقتكم الكريمة على التشرف بالوقوف أمام فضيلتكم في هذه الساحة العادلة، راجياً منكم إتاحة الفرصة كاملةً أمامي لسماع ما أود قوله على مسمعكم، ليكون بعد ذلك لكم الحكم الفصل في ما ستصل إليه قناعة و اطمئنان وجدان محكمتكم الموقرة، و إني إذ أستميحكم عذراً عن سوء التعبير الذي لا أجيده كما تتمنوه و اعتدتم على سماعه من أناسٍ متعلمين نالوا شهادات علمية عالية، و مثلوا أمامكم يصفون الأحرف والكلمات والجمل و الفقرات صفاً صفا،، بما يُعرف لدى فضيلتكم بالترافع و الدفاع، و ذلك لعدم البسطة في العلم الذي سمحت به ظروف حياتي بتلقيه في ما مضى، و عذراً لذلك لأن القريحة ستجود بما هو مكنونٌ بتواضعٍ جم في مخزونها و موجود، فاقبلوا به مني مشكورين.فقلد سألتم فضيلة الشيخ القاضي عن محامي الدفاع، و هذا ما لا طاقة لي به، و ليعذرني فضيلتكم بأني لن أكلّف نفسي فوق وسعها، و رغم يقيني أن القانون كفل لمثل حالتي تكليف من تراه المحكمة مناسباً للقيام بمهمة الدفاع، لكن لا أظن أن ثمة من يوجد بما يمكن أن يشعر بالشعور الذي أعانيه و أشعر به منذ اللحظة التي علمت فيها بما أوقع زينتي هذا نفسه فيه، و لذلك أدعوكم برجاء إلى سماع قولي أولاً، فإن ارتأيتم أن حديثي هذا معكم اليوم قد أتى سؤلكم فلكم ذلك و لأكونن لكم من الممتنين الشاكرين، و إلا فلكم الخيار من بعده و على بركة و توفيق و تيسير المولى عزّ و جلّ نبدأ.سيدي القاضي،، إنها سقطة إبن و انكسار أب،، هذا هو مجمل الحدث الذي نحن بصدد تداوله اليوم في هذه الساحة القضائية المغلقة العادلة،، فلقد وهبني الله تعالى هذا الفتى الذي يقف اليوم أمامكم بالصفة التي تعلمونها، من خلال ما سيق إليكم ضده عبر حافظة القرطاس التي بين يديْ فضيلتكم، الفتى الذي ليس له عضد فهو الوحيد الذي جئت به بأمر الله إلى هذه الدنيا من الحرث التي شاء لها الخالق جلت قدرته أن تغادر الدار الفانية إلى الدار الآخرة، أسأل الله لها العفو و المغفرة، و قد كنت له ما آثرت به نفسي من المديح المكتوم في داخلي بأني خير أب لعجيٍّ لم يمضي من عمره عدا أربعة أعوام فقط حينها، و أنا الذي فضلت أن أكون أيّماً لأجله تجنيباً له مما قد يلحق به ممن ستخلف مكان والدته- رحمة الله تعالى عليها-.فلقد رزقني الله تعالى به بعد أن بلغت من الكبر عتياً و أنا الفقير إلى الله المعدم، إلا من رحمته و فضله جلت قدرته عليّ، و إعانته لي على السعي لطلب الرزق و القوت من هنا و هناك و لله الحمد و الثناء، فلم يكن في وسعي إلا أن أدلـّله و أرفهه و أوفر له ما يستحقه و يبتغيه من الزاد في هذه الحياة الدنيا تعويضاً له عما فقده من عطف و حنان الأم، في وقت كان هو فيه بأشد الحاجة إلى الحضن الدافئ والصدر الحنون من قِبَل من تحت قدميها الجنة، نعم لقد دللته بكل لما لهذه الكلمة من معنى و مضمون، و لعلكم و الحضور تتساءلون هنا عن هذا الدلال و هذه الرفاهية اللذين يمكن أن أوفرهما لصبيٍّ بدأ للتو يخطو أولى خطواته التي كلما تقدمت به زادت و طُلبت و علت قيمتها و تكاليفها، و أنا المعدم البائس الفقير، و الحمد لله على ما رزقني من الخير و تمام الصحة و كمال العافية، و لكني أوكد لكم دلالي له فعلاً و أي دلال، إنه أغلى الدلال الذي يمكن لامرءٍ مثلي أن يقدمه لابنه في زمنٍ صارت تتكالب فيه الأهواء على الأمّارة من كل حدبٍ و صوب…إنه الدلال و الرفاهية المتصليْن بالله جلّ جلاله حيث الحث المستمر على التمسك بكتاب الله تعالى و سنة نبيّه المصطفى صلى الله عليه و سلم و كل ما فيه رضا الله تعالى عن عبده و أداء سائر العبادات التي في مقدمتها الصلاة، فهذا ما عَنَيْتَه مما أشرت إليه من الدلال و الرفاهية، و الحمد لله على توفيقه لي و له على ما سعينا إليه، و لفضيلتكم الرأي إن ارتأيتم اختبار دلالي له في الشأن الذي دللته إياه فهو و لله الحمد حافظاً بالكامل لكتاب الله عز وجل و جوانب من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم، أما في مدرسته و منذ التحاقه بصفه الأول فهو من الطلبة المشهود لهم بالتفوق و لله الحمد و المنّة.أما من حيث الوضع الذي هو عليه اليوم فذلك بما جنت يداه نتيجة حسن ظنه بكل من حوله الذين رآهم بالمرآة التي هو على خصالها، أولئك الذين اعتبرهم رفاقاً مخلصين له، ما هم إلا نفراً حاقدين حاسدين مغرضين، للفارق الأخلاقي و السلوكي الفاصل بينهم وبينه، و هذا ليس قدحاً في أولئك كما هو ليس مدحاً في هذا، إنما ذلك لفارق الحال بين من أراه و قد اعتصم بحبل الله بينما الآخر على الضد من هذا حيث اعتصم بحبلٍ واهنٍ سيغدر به حين يشاء الله أن يكشف أمره و سرّه، فسعوا مارقين ماكرين إلى نصب فخاخهم الملغومة حوله بِشَر الانتقام وتدمير المستقبل، متخفين وراء قناع الصفات النبيلة و الأخلاق الحميدة و القيم الأصيلة، حتى أوقعوه بالطريقة التي أوضحتها ما حوته ضده الأوراق التي أمامكم، لأجل نيل غرضهم الدنيء بهدم ما شيّدته معه على ما مضى بي و به من العمر نيلاً من مستقبله.وأقف أمامكم اليوم ليس بصدد تبرير اختلاطه بهم و السير على نهجهم المنحرف حتى بقى أداة طيّعة لديهم و استمر على ذلك خفيةً و سراً لحين وقوعه في فخهم و افتضاح أمره، و لكن وقوفي هذا جاء،، أولاً،، بعد تكرم أصحاب الضرر بتنازلهم عن أية مطالبات شخصية نتيجة ما سببه هذا الفتنة لهم، لأنه بقيام المطالبة الشخصية أعي تماماً بأنه لن يكن بمقدوري أن أفي بما سَيُطْلَبُ إليّ الوفاء به ،،ثانياً،، بعد يقيني التام من أنه قد تعلّم الدرس جيداً و استفاد من عواقبه بل و أتقن مترتباته و آثاره عليه، لذلك و من منطلق أنه أضحى لديّ المؤكد بأنه لن و لن ثم لن يقدم على أي مما يخالف شرع الله أولاً ثم القانون ثانياً، فإنه و لهذه الأسباب مجتمعة، ها أنا اليوم أمام محكمتكم الموقرة العادلة أصدح بصوتي للمرة الأولى في حياتي بمكان كهذا، و أنا بعمري هذا، الذي مضى عليه خمسة و ستين حولاً، جئتكم لأصدح بهذا الصوت الزاعج لمسمعكم و أنا لا يعتريني و لا يكتنف صدري مثقال ذرّة شك في أن الله سبحانه و تعالى لا يريد لي إلا خيراً و توفيقاً و تيسيراً لأمري هذا، بل كل الخير و اليسر و التوفيق هو ما يريده الله عزّ و جلّ لعبده متى ما أحسن الظن به يقيناً و اعتمد في التوكل عليه حق الاعتماد، و هذا ما عقدت نيتي عليه معه سبحانه و تعالى كي أناله من تقديرات عدلكم و نظرات عطفكم و اعتبارات إنسانيتكم و مدخلات مشرّعكم، الذي يجيز لمنبركم القضائي العادل هذا الرأفة و الشفقة على كل من يقف في الحيّز الذي يتواجد عليه في التو و اللحظة هذا المبخلة المجبنة.لذلك سيدي القاضي ألتمس من فضيلتكم أن تجعلوا من قولي سالف الذكر و البيان منصة أبوية حانية مقرونة بعين الرأفة و العطف و الشفقة، وأنتم تصدرون حكمكم بحق ابني هذا الذي أتطلع بحرقة إلى أن يعود كسابق عهده كما لو لم يكن عليه من جَنَاحٍ اقترفه ليعاود الانتظام من جديد لمدرسته، حتى يواصل دراسة فصله الثاني وهو خليّ الفؤاد و اللب و البال من كل ما من شأنه أن ينغص عليه حياته و مستقبله و يجنبني ما يزيد من همي و قلقي عليه، و كي يكون كذلك مستعداً بإذن الله تعالى لمواصلة عامه الدراسي الأخير للعام الدراسي المقبل.أكرر لفضيلتكم التماسي و أطالبكم برجاء و أنا العاجز الضعيف بين يدي الله، أن تنظروا لضعفي هذا و قلة حيلتي و أن تعفوا فالعفو عند المقدرة{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۚ}، و أملي أولاً بالله مؤكداً جزماً و يقيناً ثم بكم و أنتم تنطقون الحكم القضائي بعطف أبوي حنون.. و وفقكم الله إلى الخير والسؤدد و الصلاح،، و شكراً جزيلاً لإتاحة هذه السانحة لي التي أسهبت فيها بحرية تامة و أنتم تستمعون بسعة بال و رحابة صدر،، و جزاكم الله خير الجزاء…وقد كان الرجل عند موعده حيث سلّمته الخطاب في بضع ورقات فتسلّمه شاكراً لي ما اعتبره هو معروفاً لا يُنسى، و ما أعتبره أنا أنه أدنى ما يمكن تقديمه لرجل مثله.و هذا ما وفقني الله تعالى إليه آملاً أن يكون التوفيق و التيسير و ما يبتغيه الرجل من الخير و الصلاح حليفاً له ، و لا أخفيكم سراً إني أتطلع حقيقةً إلى الالتقاء به أو أن يزورني ليطمئنني عما آل إليه الأمر معه،، سائلاً الله أن يوفقه و ييسر أمره ويشرح صدره.